دخلتُ إلى صالة الجيم، متأخرةً عن الباقين بعضَ الشيء، إذ رأيتهن جميعا في ملابس الرياضة، يمارسن ما اعتدنَ مِن تمرينات.
ثمة وجوه جديدة هاهنا..
قدّرتُ أن الوقتَ سيسمح لي بمعرفة الجديدات دون نية مني وقصدٍ، كما يحدث دوماً إنْ وضعتَ بشراً سويا في مكان، يجمعهم نشاطٌ ما، وإنْ بدا لي وقتاً أطول في اقتحام صداقة أربعٍ منهن، استغنين ببعضٍ عن معرفة الباقين، ولو لحين.
ثم بدت إحداهن وحيدة، لتعلنَ لنا المدرِّبة بعدَ فترةٍ وجيزة أنها فرنسية، فإذ بالكل يراقب قولَه، وهن يسألن المدربة في فضول: أتفهم العربية؟
فهزّت المدربة رأسها قائلة: "نعم"، ثم التفتت إلى الفتاة بابتسامة هادئة وهي تقول: أنتِ مسلمة؟ أليس كذلك؟؟
أجابتها بابتسامة مماثلة وبعربية جميلة: "نعم.. أنا مسلمة".
ضحكنا وابتسمنا لقولها، ثم أخبرتنا أنها لا تفهم العامية الدارجة، وإنْ فَهِمتْ الفصحى بوضوح.
بيضاء البشرة، رشيقة القد، ناعمة الشعر، جميلة.
أعجبني موضوع الفصحى هذا كثيراً، وإنْ لم يتح لي التحدث معها يومها، حيث انتهينا من التمارين الرياضية، وأسرعنا نبدل ملابسنا وننطلق؛ كل إلى حال سبيلها دون مجالٍ يُذكر للكلام.
إلا أنني لم أنطلق فعلياً، قبل أن أرى الفتاة وقد ارتدت ملابس الخروج.
فلا أنكر حينذاك فضولي لرؤية ما سوف ترتدي هذه الفتاة الفرنسية المسلمة،
أترى انعكس إسلامُها على زيها، أم تكتفي من الإسلام باسمِه؟
ففاجأني سوادٌ شملها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، مع استثناء دائرتيْ عينيها!
قلتُ سبحان الله..
ومضيتُ إلى طريقي، وفي ذهني ترتسم قصتها: فرنسية تزوجت من مسلم، فأسلمت وحسنَ إسلامها، وتعيش بمصر.
واطمأن قلبي لهذه القصة، وإن عزمتُ على التأكد من صحتها إن عاجلا أو آجلاً.
وكجزء من بحثي عن صحة تخيلي، أبصرتُ يديها، في مرة من المرات، فإذا هي تخلو من أي ما يشير لزواج هذه الفتاة أو حتى خطبتها.
أصابني يأسٌ ما، ما لبث أن استحال لذعرٍ مكتوم، مبعثه تخيلي لفتاة أجنبية رقيقة كهذه، تحيا وحدها في بلدٍ كمصر، ولا تفهم لغة أهلها، ودون زوجٍ يحميها منا.
جذبني فضولٌ أكثر للتعرف عليها، وإنْ لم أتعمد ذلك أو أبذل في سبيلِه جهدا يُذكر، ذلك أنني لا أحب تكلف العلاقات واستدراجها، وأفضّل أن أترك الأمور لتسير كيفما اتفق، دون تدخل مني لفرض نفسي على أحد.
----
باغتتني يوماً بجلوسها إلى جواري، في طريق العودة، بزيها الأسود – الذي اكتشفتُ بعدها أنه أغمق درجات الأزرق وليس بأسود! - وتربيتها على كتفي وقولة: "ازيك؟" مع ابتسامة رائعة لم أرها طبعا من تحت لثامها، وإنْ شعرتُ بها بوضوح في لهجتها.
علقتُ بصري عليها قبل أن تركب، وقد ألح عليّ خاطر عجيب بأن هذه الفتاة هي نفسها "نسرين" الفرنسية المسلمة.
لم أجِدْ يوما التعرف على منتقبة حال انتقابها، ولكنني عرفتُ أنها هي قبل أن تركب، و تؤكد معرفتي بتربيتها وترحيبها بي.
أي جمال يختفي خلف هذا النقاب؟
شغلني هذا الخاطر، حتى نزلتُ وتركتها، وفي ذهني خواطر أخرى بشأنها، مثل هذا الاسم الذي تحمله "نسرين"، وقد بدا لي عجيباً للغاية من فتاة فرنسية أسلمت.
وبعد أن جمعنا طريق العودة مرة أخرى، أتيح لي التمتع بالحديث بالفصحى معها، كما أتيح لي هدم نظريتي الواهمة عنها وعن قصتها، بداية من الزوج الذي تحيا معه هنا، ونهاية بجنسيتها الفرنسية المزعومة!
فالفتاة متزوجة منذ أربع سنوات، وتسكن مع زوجها بمصر منذ عام، ولقد أراحتني هذه الحقيقة كثيراً، وأزالت فزعي السابق.
كما أنها في السابعة والعشرين، وإنْ بدت أصغر من ذلك. وتدرس العربية بمركز ما لتعليم العربية، وهدفها الرئيس هو معرفة قراءة القرآن.
تحسدنا كثيراً على الأذان الذي نسمعه خمس مرات في اليوم، ولا تسمعه هي في فرنسا، وعلى الحجاب الذي يستر أغلبَ نسائنا في الشوارع، وعلى الجامعات التي لا تحرّم ارتداء النقاب! – حيث طُردت من جامعة بفرنسا بعد انتقابها مباشرة - ، وأكبر وأعظم ما تغبطنا عليه هو أننا ولدنا ونحيا ببلد عربي، نجيد العربية، وتسهل لدينا قراءة القرآن، ثم سألتني سؤالا عجيبا:
هل نشعر نحن المصريين بهذه النعمة؟؟ هل نشعر بنعمة اللغة العربية، التي حُرمَتْ هي و مثيلاتها منها، فلا يعرفن قراءة القرآن، ويبكين لهذا العجز، ويبذلن الجهود ويدرسن لإتقان اللغة الفاتنة تلك؟
حركني سؤالها، و أجبتها بالقطع نعم، و حمدت الله و أثنيت عليه، ثم أخبرتها عن عشقي للعربية، وعن كتابتي للشعر، وعن استعدادي لتعليمها القرآن، واللغة الدراجة كي تفهم كلام المصريين، ورغبتي الحقة في تعلم اللغة الفرنسية بإتقان، فأبدت استجابة عظيمة. وأضافت أول كلمة بالفرنسية لتعلمني: comment vas tu?
أحببتها جداً.
وحين أخبرتني بأمر زوجها، - وتشبثا بأملٍ أخير في أن يصبح ربع قصتي السابقة صحيحاً – سألتها إن كان مصريا؟ فتلعثمَتْ قليلاً، وترددت قبل أن تجيب بالنفي.
أصابتني الدهشة، وقبل أن أسأل عن المزيد، أردفت: هو مثلي.
قلتُ المعلومة الوحيدة المؤكدة لديّ عنها: أنتِ فرنسية، أليس كذلك؟
شرحت لي حينها أنها ليست فرنسية، وإن عاشت بفرنسا، ولا تجيد سوى الفرنسية، وقالت أنها من المغرب العربي!
وقبل أن أسأل مجددا، ترددت قليلاً، قبل أن تضيف: "من الجزائر!"
رحبتُ بها كثيراً، و ضحكَتْ وهي تقول أنها لم ترد أن تعلن حقيقة جنسيتها؛ لما في نفوس المصريين تجاه الإخوة الجزائريين بعد أحداث المباريات المؤسفة.
قالت أن زوجها حين سئل عن جنسيته، أجاب: من المغرب العربي، وقبل أن يضيف حرفاً، بادره السائل قائلا: "كويس إنك مش من الجزائر!!"
يومها عاد إلى المنزل محذرا إياها من الإفصاح عن جنسيتها، بعد أن رأى شعباً يتحرق شوقا للفتك بإخوتِه.
كانت تقص عليّ هذا بابتسامتها الجميلة الخلابة، قبل أن يغزوها الحزنُ، وهي تضيف:
أنا لا أفهم. أنا لا أحب هذا الـ ..، الـ..، أعني كرة القدم هذه، ولا أشاهدها..
أجبتها: ولا أنا أحبها!
أشارت إلى نفسها، ثم إلي غطاء رأسي مكملة: وأنا مسلمة، وأنتِ مسلمة، فلماذا نكره بعضنا ونتعامل هكذا؟؟!
قلتُ: لسنا جميعا بهذا الفكر، وهناك الكثير منا لم يرضَ بما حدث، فقالت بتردد:
ألا يزعجكِ أن أكون جزائرية؟
ابتسمتُ، مجيبة: إطلاقا! بل أنا سعيدة جدا بمعرفتك.
وبعربيتها الجميلة غمغمتْ: وأنا أيضاً، جزاكِ الله خيراً.
----
وجزاكِ نسرين
No comments:
Post a Comment