إنها لي

الهدف الرئيسُ مِن هذه المدونة هو تأريخٌ لما أكتب، فلستُ أزعمُ أن أفيدَ بها أحداً سواي

Mar 25, 2010

نسرين


دخلتُ إلى صالة الجيم، متأخرةً عن الباقين بعضَ الشيء، إذ رأيتهن جميعا في ملابس الرياضة، يمارسن ما اعتدنَ مِن تمرينات.
ثمة وجوه جديدة هاهنا..
قدّرتُ أن الوقتَ سيسمح لي بمعرفة الجديدات دون نية مني وقصدٍ، كما يحدث دوماً إنْ وضعتَ بشراً سويا في مكان، يجمعهم نشاطٌ ما، وإنْ بدا لي وقتاً أطول في اقتحام صداقة أربعٍ منهن، استغنين ببعضٍ عن معرفة الباقين، ولو لحين.
ثم بدت إحداهن وحيدة، لتعلنَ لنا المدرِّبة بعدَ فترةٍ وجيزة أنها فرنسية، فإذ بالكل يراقب قولَه، وهن يسألن المدربة في فضول: أتفهم العربية؟
فهزّت المدربة رأسها قائلة: "نعم"، ثم التفتت إلى الفتاة بابتسامة هادئة وهي تقول: أنتِ مسلمة؟ أليس كذلك؟؟
أجابتها بابتسامة مماثلة وبعربية جميلة: "نعم.. أنا مسلمة".
ضحكنا وابتسمنا لقولها، ثم أخبرتنا أنها لا تفهم العامية الدارجة، وإنْ فَهِمتْ الفصحى بوضوح.
بيضاء البشرة، رشيقة القد، ناعمة الشعر، جميلة.
أعجبني موضوع الفصحى هذا كثيراً، وإنْ لم يتح لي التحدث معها يومها، حيث انتهينا من التمارين الرياضية، وأسرعنا نبدل ملابسنا وننطلق؛ كل إلى حال سبيلها دون مجالٍ يُذكر للكلام.
إلا أنني لم أنطلق فعلياً، قبل أن أرى الفتاة وقد ارتدت ملابس الخروج.
فلا أنكر حينذاك فضولي لرؤية ما سوف ترتدي هذه الفتاة الفرنسية المسلمة،
أترى انعكس إسلامُها على زيها، أم تكتفي من الإسلام باسمِه؟
ففاجأني سوادٌ شملها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، مع استثناء دائرتيْ عينيها!
قلتُ سبحان الله..
ومضيتُ إلى طريقي، وفي ذهني ترتسم قصتها: فرنسية تزوجت من مسلم، فأسلمت وحسنَ إسلامها، وتعيش بمصر.
واطمأن قلبي لهذه القصة، وإن عزمتُ على التأكد من صحتها إن عاجلا أو آجلاً.
وكجزء من بحثي عن صحة تخيلي، أبصرتُ يديها، في مرة من المرات، فإذا هي تخلو من أي ما يشير لزواج هذه الفتاة أو حتى خطبتها.
أصابني يأسٌ ما، ما لبث أن استحال لذعرٍ مكتوم، مبعثه تخيلي لفتاة أجنبية رقيقة كهذه، تحيا وحدها في بلدٍ كمصر، ولا تفهم لغة أهلها، ودون زوجٍ يحميها منا.
جذبني فضولٌ أكثر للتعرف عليها، وإنْ لم أتعمد ذلك أو أبذل في سبيلِه جهدا يُذكر، ذلك أنني لا أحب تكلف العلاقات واستدراجها، وأفضّل أن أترك الأمور لتسير كيفما اتفق، دون تدخل مني لفرض نفسي على أحد.
----
باغتتني يوماً بجلوسها إلى جواري، في طريق العودة، بزيها الأسود – الذي اكتشفتُ بعدها أنه أغمق درجات الأزرق وليس بأسود! - وتربيتها على كتفي وقولة: "ازيك؟" مع ابتسامة رائعة لم أرها طبعا من تحت لثامها، وإنْ شعرتُ بها بوضوح في لهجتها.
علقتُ بصري عليها قبل أن تركب، وقد ألح عليّ خاطر عجيب بأن هذه الفتاة هي نفسها "نسرين" الفرنسية المسلمة.
لم أجِدْ يوما التعرف على منتقبة حال انتقابها، ولكنني عرفتُ أنها هي قبل أن تركب، و تؤكد معرفتي بتربيتها وترحيبها بي.
أي جمال يختفي خلف هذا النقاب؟
شغلني هذا الخاطر، حتى نزلتُ وتركتها، وفي ذهني خواطر أخرى بشأنها، مثل هذا الاسم الذي تحمله "نسرين"، وقد بدا لي عجيباً للغاية من فتاة فرنسية أسلمت.
وبعد أن جمعنا طريق العودة مرة أخرى، أتيح لي التمتع بالحديث بالفصحى معها، كما أتيح لي هدم نظريتي الواهمة عنها وعن قصتها، بداية من الزوج الذي تحيا معه هنا، ونهاية بجنسيتها الفرنسية المزعومة!
فالفتاة متزوجة منذ أربع سنوات، وتسكن مع زوجها بمصر منذ عام، ولقد أراحتني هذه الحقيقة كثيراً، وأزالت فزعي السابق.
كما أنها في السابعة والعشرين، وإنْ بدت أصغر من ذلك. وتدرس العربية بمركز ما لتعليم العربية، وهدفها الرئيس هو معرفة قراءة القرآن.
تحسدنا كثيراً على الأذان الذي نسمعه خمس مرات في اليوم، ولا تسمعه هي في فرنسا، وعلى الحجاب الذي يستر أغلبَ نسائنا في الشوارع، وعلى الجامعات التي لا تحرّم ارتداء النقاب! – حيث طُردت من جامعة بفرنسا بعد انتقابها مباشرة - ، وأكبر وأعظم ما تغبطنا عليه هو أننا ولدنا ونحيا ببلد عربي، نجيد العربية، وتسهل لدينا قراءة القرآن، ثم سألتني سؤالا عجيبا:
هل نشعر نحن المصريين بهذه النعمة؟؟ هل نشعر بنعمة اللغة العربية، التي حُرمَتْ هي و مثيلاتها منها، فلا يعرفن قراءة القرآن، ويبكين لهذا العجز، ويبذلن الجهود ويدرسن لإتقان اللغة الفاتنة تلك؟
حركني سؤالها، و أجبتها بالقطع نعم، و حمدت الله و أثنيت عليه، ثم أخبرتها عن عشقي للعربية، وعن كتابتي للشعر، وعن استعدادي لتعليمها القرآن، واللغة الدراجة كي تفهم كلام المصريين، ورغبتي الحقة في تعلم اللغة الفرنسية بإتقان، فأبدت استجابة عظيمة. وأضافت أول كلمة بالفرنسية لتعلمني: comment vas tu?

أحببتها جداً.
وحين أخبرتني بأمر زوجها، - وتشبثا بأملٍ أخير في أن يصبح ربع قصتي السابقة صحيحاً – سألتها إن كان مصريا؟ فتلعثمَتْ قليلاً، وترددت قبل أن تجيب بالنفي.
أصابتني الدهشة، وقبل أن أسأل عن المزيد، أردفت: هو مثلي.
قلتُ المعلومة الوحيدة المؤكدة لديّ عنها: أنتِ فرنسية، أليس كذلك؟
شرحت لي حينها أنها ليست فرنسية، وإن عاشت بفرنسا، ولا تجيد سوى الفرنسية، وقالت أنها من المغرب العربي!
وقبل أن أسأل مجددا، ترددت قليلاً، قبل أن تضيف: "من الجزائر!"
رحبتُ بها كثيراً، و ضحكَتْ وهي تقول أنها لم ترد أن تعلن حقيقة جنسيتها؛ لما في نفوس المصريين تجاه الإخوة الجزائريين بعد أحداث المباريات المؤسفة.
قالت أن زوجها حين سئل عن جنسيته، أجاب: من المغرب العربي، وقبل أن يضيف حرفاً، بادره السائل قائلا: "كويس إنك مش من الجزائر!!"
يومها عاد إلى المنزل محذرا إياها من الإفصاح عن جنسيتها، بعد أن رأى شعباً يتحرق شوقا للفتك بإخوتِه.
كانت تقص عليّ هذا بابتسامتها الجميلة الخلابة، قبل أن يغزوها الحزنُ، وهي تضيف:
أنا لا أفهم. أنا لا أحب هذا الـ ..، الـ..، أعني كرة القدم هذه، ولا أشاهدها..
أجبتها: ولا أنا أحبها!
أشارت إلى نفسها، ثم إلي غطاء رأسي مكملة: وأنا مسلمة، وأنتِ مسلمة، فلماذا نكره بعضنا ونتعامل هكذا؟؟!
قلتُ: لسنا جميعا بهذا الفكر، وهناك الكثير منا لم يرضَ بما حدث، فقالت بتردد:
ألا يزعجكِ أن أكون جزائرية؟
ابتسمتُ، مجيبة: إطلاقا! بل أنا سعيدة جدا بمعرفتك.
وبعربيتها الجميلة غمغمتْ: وأنا أيضاً، جزاكِ الله خيراً.
----
وجزاكِ نسرين


Mar 22, 2010

جدي

لم أكن قد رأيته منذ مرضِه الأخير..
لم تُتح لي - أو لم أسع إلى - فرصة زيارتِه..
..كنتُ أخشَى أن تصطدم عيناي - ومن قبلهما قلبي - بما اصطدمتا به بالفعل حين تمت لي الزيارة
يا إلهي
ليس مَنْ سمع كمن شاهدَ حتماً
سمعتُ عن نقص وزنه،
سمعتُ عن ضعف بنيتِه،
سمعتُ أنه لا يأكل ولا يشرب
أنه يتألم كثيراً
أنه يغيب عن الوعي
سمعتُ، وسمعتُ، وسمعتُ، حتى بات السمع يؤلمني
ثم أخيراً شاهدتُ
شاهدتُ طفلاً رضيعا؛
يفرح أهله بكلمةٍ استطاع أن يحرّك بها لسانَه
أو يسعدون للقيمة دخلت فمه دون أن يطردها مرة أخرى..
شاهدت جدي مُنكسا في الخلقِ..
يعود فيحتاج من يرعاه، و يطعمه، ويسقيه، ويناوله دواءه، ويقضي له حاجته، ويجلسه، ويرفعه، و يضعه، ويربت عليه..
يعود فيفرح الأهل به إنْ تكلم، ويرددون ما قال، على أسماع من لم يسمع منهم، كي لا يفوتهم شيءٌ من أقواله الهزيلة..
ويفرحون بحسنِ إدراكِه لحقيقة ما، مما يدور حوله كل يوم، بما أوحي بصلاحية بعض خلايا مخه، واحتفاظها بوظائفها حتى تلك اللحظة..
شاهدت جدي عاجزاً..
شاهدته واهناً كسيراً..
يعاني من آلام خفية لم أدر مصدرها تحديداً، وإنْ مزقتني أهاتُ عذاباته.
شاهدته هيكلا من عظامٍ، كساها جلدٌ شاحبٌ بشدةٍ مرعبة..

هذا الرجل الوسيمُ، الأبيض، الفارع، القوي، لم يعد يملك من صفاتِه تلك شيئاً..
سبحان من بيدِه الأمر..
أسأل الله أن يشفيك ويخفف عنك يا جدي
وأن يمتعك بصحتك ما أحياك
وأن يغفر لك ولنا.

Mar 12, 2010

عيدُ زواجٍ شهريّ


شفتاكَ تلك أذابتا أوصالي = ويسيلُ شهدُ اللثمِ منكَ لآلي
يا نبضَ قلبٍ طُيِّبَتْ أركانه = بالحُسْنِ في الأقوال والأفعالِ
إني وإنْ كان القصيدُ مُعبّراً = عجزَ اللسانُ عن الوفاء بحالي
ما كان حلمي أنْ أنال النصفَ أوْ = رُبعاً فإذْ بالكلِّ صار نوالي!
وهبَ الكريمَ الأكرمُ الله، اعلموا = خيرُ الرجالِ اليومَ صار حلالي
ألفيـته قلباً فتيّا باسـلاً = طـفلاً محباً ذائـباً بــدلالِ
وسألته حباً يدوم بقربِهِ = فأجابني ضما بغير سؤالِ
بالغتُ في حلمي بزوجٍ رائعٍ = لكنَّ حق الأمرِ فاقَ خيالي
أكما تقولُ جميلةٌ؟ فلأنه = وبغير شكٍّ أنت سرُّ جمالي
اليوم فاتَ الشهرُ منذ زواجِنا = دم لي ودامَ الحبُّ دونَ زوالِ

Mar 10, 2010

صرتُ زوجاً لك



عبثًا سأحَمِّلُ كلماتي بعضاً مِنْ عِشقي
سأحاولْ
لو حرقتْ شِعري عاطفتي
فاسمحْ للشوقِ المتنامي
أنْ يخمدَ حيناً في ورقٍ
يكتبه سائلُ أوردتي

---
كان لابد لي أن أكتبَ..
فمَنْ اعتادت – ولو لفترة ما من حياتها – تدوين ما تشعر به بصفة شبه دائمة، عسيرٌ عليها أن يحدث ما حدثَ دون كتابة ولو لمحات بسيطة منه..
والواقع أنه حتى لو أردت أن أكتب كل شيء، فلن أظفر سوى بلمحات بسيطة!
هناك أشياء تفسدها الكتابة..
تشوّه جمالها غيرَ القابل لأي وصف، بأي كلمة
يكفي أن نعرف أنه هناك..
يكفي أن تراه متألقاً في العيونِ، سائلا من القلب، فائضاً في كل جنبات النفس.
---
بالله قل لي أي عشقٍ يُرتجَى في غير قلبٍ ليس لكْ ؟
أي المشاعر ترتقي فوق اندماجِ الروح بك؟
بالله قل لي
هل ترى عينانِِ فوق الأرضِ مَنْ تجني ثماراً مثلما
أجني بعذبِ الحُبِّ مِنكْ ؟!
بالله دم لي

كيفما كانت يداك تعيدني في لمس دفءٍ طفلةً

ترجو حِماكَ، و أنت لم تفتأ تداعبها ولم

تمللْ بكاءً طالما أشقاك منها – ليس شك! –
بالله قل لي أي شوْك
في وردةٍ ورقاتها إخلاصُكَ الصافي وحب؟
أي عقلٍ؟ أي قلبٍ؟ أي عينٍ ما ملكتْ؟

أي خلقِ الله أنتْ ؟؟!
بالله قل لي أي خلق؟

------
حتى الشعر..
هل ينقل حقاً ما أريد قوله؟!
هل يحمل القصيد روعة المقصود؟
حتى وإن لم يحملْ
فلابد لي أن أكتب
ولابد لي أن أصرخ بكل ما أوتيتُ مِن قوة:
أحبك
أحبك أيها الزوج الحبيب الغالي
أحبك
---
ثم انتظرْ، قل لي
وكيف المرءُ يعطيك الحقوقَ المستحقّاتِ التي
ليست تقلُّ عن الهُيامْ؟
كيف التحايا لا تُردّ إليك إحساناً بإحسانٍ وليس
الرد خيراً مِنْ بناتِ لسانك الغُرّ الكرامْ
- شفتاك سيدتا الكلامْ -
------
لولا اتّقاء عيون حسّادِ الأنام
لصرختُ في كل ارتفاعٍ وانخفاضٍ و انحدارْ

"أهواكَ يا إلفَ الغرامْ "
أهواك، تحسدني النساء

إن لم يكنّ عليك يحسدْنَ التي
أسكنتها صدراً يفيض حنانه فمَنْ التي
- غيري – ستخشَى عينَهن؟
ومن التي غيري سترجو
فوقَ ما ألفيتُ مِنْ قلبٍ رقيقٍ لا يضن؟
----
بك امتلأ شِعري، كما امتلأ بك كوْني.
مضى شهرٌ تقريبا منذ عقد قراننا..
ستة وعشرون يوماً بالتحديد، مضَتْ، وهاأنا أعي أخيراً أنني صرتُ زوجاً لك..
وكما لم أكن أتخيل كل ما يحمله لي زواجي بك من خير، لم أكن أتخيل أيضاً كم هي عسيرة الحياة من بعدك.
قديما، كانت الأيام تمضي دون أن ننتظرَ منها شيئاً.
واليوم كيف نتركها تمضي، بعد أن أذاقتنا حلاوةً ما درينا بوجودها إلا بعد أن تنعمنا بها؟

حفظك الله لي حبيبي، وجمعنا على الخير وفي الخير دوماً.