إنها لي

الهدف الرئيسُ مِن هذه المدونة هو تأريخٌ لما أكتب، فلستُ أزعمُ أن أفيدَ بها أحداً سواي

Aug 25, 2007

رفقاً بالقوارير


"نهاية الخط"..

هكذا نزلتُ في استسلام تام، و شرود عقلٍ عظيم..

الوقتُ ليس متأخراً جداً، لكنّ الظلامَ دامس..

ترى من المسئول عن أعمدة إنارة، تملأ الشوارع، و لا أرى لها شعاعاً من نور؟!

يُخيَّل إليّ أنها وُضِعَت، فقط لتكون وظيفتها أن يصطدم بها السكارى، و الشاردون في جوفِ الليل!

نعم، هذه طقطقة حذائي العالية..

منذ متى يصدر عنه أدنى صوت؟

لكن السكون المحيط كفيلٌ بجعل تثاؤب النمل مسموعاً..

لطالما كرهتُ السير في هذا الشارع الكئيبِ، الذي إما قد مات سكانه، أو قرروا اللياذَ بالصمت إلى الأبد..

تتسربُ إلى ذهني أنباءُ الحقائب المسروقة، و الشباب العاطل الذي لا يجد له عملاً سوى التعرض للسائرين ليلاً؛ فأزيد – بحركة لا إرادية – من قوة ضغط أصابعي القابضة على حقيبتي، و أدنيها مني أكثر، بينما عقلي يواصل استدعاءَ كل القصص المبهجة، التي عرفها منذ وعى الكلام..

أسرعتُ الخُطَى، و قد بدا لي الارتجافُ نتيجة النسمة الليلة الباردة..

ثم وثبَ مني قلبي بغتة، حتى كاد يغادرني، و تحجّرَتْ قدماي أرضاً لثوان..

طقطقة أخرى تمزق معي صمت ذلك المكان..

و مع تزايد نبضاته بسرعة رهيبة، كادت توقف قلبي إلى الأبد، انطلق عقلي يعمل في سرعة مماثلة..

هل أصرخ ؟ هل أعدو؟ هل أفر هاربة؟

هل أنظر ورائي؟!

هل أكمل طريقي كأن لم يحدث شيء؟!

تذكرتُ أنه لم يبق إلا دقيقتان و أصل إلى بغيتي، فضاعفتُ من ضرب قدميّ للأرض، و قلبي يتأرجح يميناً و يساراً في شدة، باحثاُ عن نورٍ في مكان ما..

كنتُ على يقين من أنه سيهجم الآن..

كنت أثق في أنه لن يرحمني..

كنت على وشك إلقاء حقيبتي أرضاً؛ و الانفجار في البكاء..

كنت..

كنت قد وصلتُ!

* * *


ها قد بلغتُ العمران..

المحطة مزدحمة للغاية..

و الناس يتزاحمون على الركوب، كتزاحمهم على مقعد في الجنة..

أدفع نفسي دفعاً، و قد حانت مني التفاتة إلى الخلف، و عيني تطلب شيئاً بعينِه، لم تظفر به، فاستقررتُ على مقعد متهالكٍ ، قبل أن يشاركني فيه أحد..

البيت لا يزال بعيداً..

لكنها آخر ركوبة، و أصل سالمة بإذن الله..

أحب الجلوس إلى جوار النافذة..

أحب الركونَ إليها، و إسناد الرأس عليها، و إطلاق العين و العقل من خلالها..

فانطلقت عيني ترى و لا ترى، و أذني تسمع و لا أعي..

و أنفي يسحب هواء وفيراً، ثم يطلقه في محاولة ناجحة للاسترخاء..

أفكر..

هل لي أن ألعن ذلك اليوم الذي أجبرني على الخروج من بيتي أساساً؟

أم ألعن أبناء وطني، الذين تمسكوا بالذكورة ، لا بالرجولة؟!

الحركة من حولي كثيرة، و الصوت مزعجٌ، و النور أصفر باهت..

أعود فأفكر..

مرحى..

لقد نجوتِ الليلة..

لكن..

لئن نجوت اليوم، فهل أنجو غداً؟!

ويحي..

أين أنا؟

ألست وسط أهلي، و في حمى أبناء بلدي، و مسلمي أرضي؟

فلمَ لستُ في مأمنٍ على نفسي؟!

لمَ أرى كلَّ عينٍ سهماً، و كل يد سيفاً، و كل وجهٍ مسخاً ، يريد حملي بعيداً، و الفتك بي؟!

حتى من يقول لي: (أحمل عنكِ) ، فأخشى أن يحملَ عليّ، لا عني..

فمَنْ يعيد لي أمني؟

قاطع تفكيري توقفُ العربة المفاجئ، و اندفاعنا جميعا إلى الأمام..

ثم اندفاعها هي في سرعة، و ترجرج أجسامنا في قوةٍ آلمتني..

رباه..

لو كان هناك نور كاف، و أذن مرهفة، لرأيتَ صورتي في الزجاجِ و الدمع يفيض، و لسمعتَ الشفةَ بعد الذكرِ تنبس:

- يا أخي رفقاً.. تحملُ القواريرَ .. فرفقاً !

صلى الله عليه و سلم.

* * *