هناك مَنْ يموتُ، فتقلق عليه..
وهناك من يموتُ، فيقلقك على نفسِك..
كان جدي لأمي من هذا النوع الأخير، الذي يجعلك تتساءل عن نفسِك في رعب: ماذا عن مصيري؟ وكيف ستكون خاتمتي في هذه الحياة الدنيا؟
أكثر ما كان يلح عليّ بالأمس هو هذا الخاطر المفزع، المقرون بالرجاء في رحمة الله، وفي أن يكتب لنا جميعاً حسنَ الخاتمة..
كان مريضاً، لكن حالته الصحية كانت أفضل بكثير في أيامِه الأخيرة، بما جعل خبرَ موتِه في هذا التوقيت مفاجئاً إلى حد كبير..
تحدثَ، وشرب، وأكل، حتى اللحظات الأخيرة قبل موته..
بل لم يشعروا بخروج روحِه، فكأنها خرجت في لحظةٍ، بسلاسة ويسر.
----
مات ظهراً، يوم الخميس الموافق 8 أبريل عام 2010
كانت جدتي صائمة، ولم ترد أن تفطر يومها..
وحين أذَّن المؤذن للمغرب، رفضت أن تأكل أو تشرب شيئاً..
ألححنا عليها كثيراً، لكنها أبت، ثم قصّت علينا كيف أنها أتت بسحورها ليلة الخميس، جالسة إلى جوار جدي في فراشِه، تقول له: "هاتسحر جنبك بقى"
فسألها أهو يوم خميس؟؟ قالت أجل.
فغمغم: "ربنا يقويكي ويعينك."
كأنه يعلم كم سيكون شاقا عليها يوم باكر.
أبت جدتي أن تأكل هاتفة:
"هو دعا لي.. هو قال لي ربنا يقويكي.. وأهو مقويني!!"
---
ثم بعد أن صلت الفجرَ، أتت إلى جوارِه، تقرأ وردَها من القرآن حتى الشروق.
وإذا به يصحح ما يلحن به لسانها!!
سألته مندهشة: أمازلت تذكر الآياتِ؟؟، قال: نعم
سبحان الله
يصحح لها القرآنَ يوم موتِه!
----
تطلب منه جدتي أن يأكل شيئاً، أو يشرب، أو يعتدل في نومِه، وتقول له في حنان:
"ده انت حبيبي"..
فيجيبها الرجلُ المريضُ العاجزُ النقي الطاهر: "ده انتي اللي حبيبتي وروحي وعقلي"!!
ليس لأحدٍ أن يتخيل مدى ما كان لهذه الكلمات من أثر فيها..
وكانت آخر ما نطق به.
---
كان صموتاً.
" مش بيخترف بالكلام زينا، ويفضل يرغي ويعيد ويزيد" على حد قول جدتي..
إنْ حدثته حدّثك، وإلا فهو صامت..
يعلم أن أكثر ما يكب الناسَ في النار هو حصائد ألسنتهم..
ينأى بنفسِه عن الخطأ، فلا يقول إلا خيراً، أو يصمت.
لم يغضِبْ أحداً يوماً، ولا غضب منه أحد..
ولم يعرف لسانه إلا الجميل من القول.
لم يأكل مالا حراماً طوال عمرِه، فتطهر جسده من كل سوء، حتى لكاد يرتقي عن البشر، فلا هو يعرق كعرقنا، وليس لفضلاته أية رائحة منفرة
تقترب منه فتشم كل طيب..
كنا ندخل عليه أيامَ مرضِه، فيدعو لنا..
بدلا من أن يلتمس هو دعاءنا له بالشفاء، كان الكل يخرج من عنده ظافراً بدعوة أحسبها لا تُرد بإذن الله.
قالت له جدتي: "ادع لعبد الرحمن – أحد أحفاده الصغار - أن يشفيَه الله"
فأجابها: " طب ما أنا بدعيله. هو أنا مستنيكي لما تقولي لي؟؟"
صحيح أنه كان صامتاً، لكنّ شفتيه لم تتوقف عن ذكر الله قط.
تسأله جدتي: ماذا تقول يا رجل؟؟ أرى شفتيك تتحركان!
فيجيبها: أسبّح!
فتقول: اللي انت بتقوله ده كله تسبيح؟؟
فيجيب باسماً: "هو التسبيح بيخلص؟!"
رحمك الله يا جدي
رحم لساناً جرى بذكرِه
وقلباً عامراً بكتابِه
وجسداً صابراً على بلائه.
----
ثم يبعث الله آلافا لا ندري من أين جاؤوا، يصلون عليه، و يشيعون جنازته، و يحضرون عزاءه.
وقبل صلاة الجنازة، خطب الإمام خطبة قصيرة، تحدث فيها عن هذا الرجل العظيم، وعن خسارتنا الفادحة له، فقال: "فقد الأزهر في أسبوع واحد عالمين من أبنائه، الشيخ فلان، والشيخ عبد السلام. ونحن جميعاً تلامذته، ولكَمْ خطب على هذا المنبر..هذا المنبر يشهد له...."
فضج الجميع بالبكاء، على الشيخ الذي يعرفونه حق المعرفة، وله فضلٌ على كل فردٍ منهم، صغر أو كبر..
لو كانت لطوب المسجد أعين، لبكته.
رحمك الله جدي، وغفر لك، وجمعنا بك في أعلى جنتِه.
اللهم لا تحرمنا أجرَه
ولا تفتنا بعده.
No comments:
Post a Comment