إنها لي

الهدف الرئيسُ مِن هذه المدونة هو تأريخٌ لما أكتب، فلستُ أزعمُ أن أفيدَ بها أحداً سواي

Mar 23, 2008

زيارة

إن التوفيق إلى عمل الخير من الله سبحانه وتعالى..
و تيسير الأمور، و قضائها بهذا الشكل، منه وحده، لا شريكَ له..
و لسنا نزعم – بقصّنا عمّا فعلنا – أننا من ملائكة الله في الأرض، أو أننا أشخاص رائعون لا تحلم بمقابلة أمثالنا يوما ما..
لكن الأمر أن زيارتنا تلك غيّرت فينا، و أضافت إلينا أبعادا أخرى لم نكن نشعر بها من قبل..
أو دعوني أتحدثْ عن نفسي، - بلا مراء - ، لأنني لن أستطيع أن أنقلَ ما حملته الأخريات من مشاعر، ما لم تسمح لي واحدة منهن بسبر أغوارها..
غير أنني أحسُّ أنهن يشعرن بمثل ما أشعر، و ر بما أكثر..
حسنا ، عمّ أتحدث بالضبط؟!!
أراكم لا تفقهون شيئا مما أقول! ، (ليس ذا عيبا في قدراتكم الذهنية العليا، حاشا لله) ، و إنما لأنني بالفعل لم أقل شيئا بعد!
----------
القصة هي أننا ذهبنا لزيارتهم..
نعم.. زرناهم هنا في مستشفى "فلسطين"..
جرحى غزة الأحباب..
و يا لها من زيارة!
كنا ثلاث عشرة فتاة، ما بين الثامنة عشرة، و الثانية و العشرين، لا يجمعنا غير حبُّ الله، و نصرُ هذا الدين..
في البداية لم نكن نعلم ما ينبغي أن يقال، و لا ما يراد نطقه في مثل هذه المواقف..
أذكر أنني بالذات، كنت أحاول قدر المستطاع إخماد كل نظرات الشفقة ، و التي علمتُ أنها تثير أصحاب الإصابات - أي إصابات - و تضايقهم ، من عينيّ، و رسم ما أستطيع وصفه "بسمة" بالكاد..
و رغم أن أول حجرة مررنا بها كانت لشاب..
(أو هو رجل، نحسبُه من خيرة رجال هذا الدين).. إلا أننا التمسنا بعدها حجرات النساء و الفتيات، حيثما ظننا أننا سنكون أكثر إفادة، و تفاعلا، و أقل حرجا..
و منذ ثاني الحجرات، حدث ما كنتُ أحاذره منذ البداية، و ما كنتُ أؤجل من أجله مثل هذه الزيارات..
لقد انفجرت أولانا بغتة في البكاء، عندما تحدثت امرأة من أهل غزة، عن إصابتها، و علوقها هنا، و رغبتها في العودة إلى أبنائها السبعة في غزة..
و العجيب أن المرأة كانت صامدة..
تتحدث في كل فخرٍ عن إصابتها، و ساقها المبتورة، و ما أسفرت عنه محاولاتها و أخواتها من فك أسر أكثر من سبعين شاباً في بيت حانون، استشهد منهم ثلاثة فقط، لينجوَ الباقون..
إلا أنها انفجرت أخيرا في البكاء، لتبدأ الشرارة الصغيرة التي أشعلتنا كلنا دموعاً، و نشيجاً..
و يا له من إحساس..
كنا نتمنى أن نمسح دموعهم بأيدينا، و ها هو الله يستجيب لنا، لنمسح دمعة لهذه الأم الصامدة، الصابرة..
صحيح أنها أدمع قليلة مقارنة بما ينهمر يومياً من دموع، و ما يسيل من دماء، لكننا شاركنا – و لو بنذر يسير – في تجفيفها..
كنا نلتمس أحضان هذي الأمهات، بأكثر مما فعلن هن..
كنا نجري لنرتمي في حضن إحداهن، لعلها تبثنا بعضا من قوتها، و صمودها، و عزها، و كرامتها، بدفء صدرها، و حنانها الجارف، و حنينها لأبنائها المبعودين عنها..
كنا نندفع – الواحدة تلو الأخرى – لننال ضمة من صدر أمِّ ملتاعة، يغفر الله لنا بها، و بتربيتنا على كتفها..
لكن ما أثارني أنا بشدة، هو كلمة من إحدى الأمهات الغاليات لنا، - و نحن على ثقة شديدة من تقصيرنا تجاه كل أهل فلسطين و باقي بلدان العالم الإسلامي – و مع ذلك، فهي تقول لنا في تأثر شديد:
"بارك الله فيكن، حيّاكن الله.. سينصرنا الله طالما أنه هناك أمثالكن ممن يشعرون بنا، و يرقّون لأجلنا... أنتم و نحن من سينتصر، لا الحكّام.."

عندما تعلق الأمُّ النصرَ علينا..
حينما تربط نصرَ أمة، بي وحدي!!
حينما يُعْلِمُكَ أحدُهُم أن الله قد يرفع بك الغمة عن شعبٍ..
فهذا كان أقصى أمانينا الذي من أجله نعيش... في كل خطوة نخطوها، و كل كتاب نفتحه، و كل لقمة نستسيغها، و كل لحظةٍ غلبنا فيها النومُ و ألسنتنا تلهج بالدعاء..
-----------
الآن .. تغيرت نظرتي للقضية ككل..
اللقاء المباشر يختلف قطعا عما تقرؤه في جريدة، أو ما تراه في تلفاز..
الحياة – ولو لدقائق – و استنشاق أنفاس الجرحى، و سماع أنينهم، و ملامسة أجسادهم، تختلف حتماً عن كل ما سواها..
لهذا أرى الآن أن القضية بداخلي صارت أهم بكثير..
صرتُ أكثر حرصا على سماع أخبارها، و متابعة تطوراتها..
صرتُ أكثر إخلاصا في الدعاء، و أكثر صدقا فيه..
صرتُ أقرب إحساسا بأنّ لي قطعا من جسدي ، هناك تمزّق..
بأنّ لي أهلا، إخوة، آباء، أمهات ، أخوات، أبناء، بني عم، صديقات، يتألمون، ونحن لاهون..
و اللهِ لم أعد أستطيب طعاما بعدها أبدا..
لم أعد أستلذ ضحكة، و لم أعد أطلب متعة، إلا و تراودني صور الجرحى، و تحتل ما تبقى لي من مساحة في مخي، الذي أحاول أن أتخيل به كيف سيكون الأمر، لو حدث المثل معي..
لقد رأينا يومها فتاة جامعية في مثل أعمارنا، انهار على رأسها البيت، فأصيب المخيخ – غالبا – و أمها تقسم أنها " كانت فتاة عادية جدا.. كانت طبيعية.. قبل أن يحدث ما حدث" ..
لتثير بأذهاننا ذلك السؤال..
إنها فتاة تقاربنا عمرا.. لربما أصيبت إحدانا يوما ما مثلها..
ترى ، لو أصيبت إحدانا ببترٍ في ساقيها – عافاكم الله – هل ستكون بهذا الصبر، و ذاك الرضا؟؟
هل ستبتسم هاتفة: "النصر لنا"..؟؟
هل ستحيا، ما شاء الله لها أن تحيا في عزّةٍ و صمود ، مثل هؤلاء القوم المستبسلين؟؟
هل؟؟

No comments:

Post a Comment