نملك أجسادَنا، و لا نتصرف فيها كما ينبغي..
و ما دريْتُ أن الأطفال تؤثر بهم لغة الجسد إلى هذا الحد – أكثر مِن أي لغة أخرى – إلا بعدما أثبتت التجربة الفعلية مع ابنة خالي ذات الأعوام الثلاثة، لي هذه الحقيقة..
الصغيرة الرقيقة تبهرك بجمالها و براءتها، فلا تملك حيالها إلا الضمَّ و التقبيل كرد فعل طبيعي لما تثيره داخلك من مشاعر..
و عندما أفرطتُ في هذا التعامل الجسدي معها، دون حتى أن يصاحبه أية معطيات أخرى كالحلوى أو الهدايا أو الأطعمة المحببة، أو الدمى و العرائس، كانت النتيجة مذهلة!
تعلقت الصغيرة بي تعلقاً عجيباً..
تعلقاً ليس له مثيل مع بقية أبناء عائلتنا ممن يقضي معها الكثير من الوقت في اللعب و الكلام، مما أكد لديّ ما كنتُ أثق به من قوة "اللمس" في نفس الإنسان..
إنها تستيقظ كل يوم، فتهرع باحثة عني – عن حضني – ثم تقف ساكنة عند ساقيّ، إذا جلستُ أتابع حديثاً ما مع الأسرة، فلا أتمالك نفسي أمام مكوثها عندي صامتة – لا تطلب شيئا غيرَ القرب – إلا برفعها إلى موضع قلبي، أو إحاطتها بذراعيّ في قوة، غير متخلية عن أذني الواعية لما يقال..
هذه الصغيرة تبهرك!
تعطيها، فترد لك العطاءَ أضعافاً..
تمسح شعرَها بأناملك، فتقضي هي النهار تقبيلاً لوجنتيك!
هذه الصغيرة علمتني الكثير..
و بقدر حرصنا على ألا يمسنا مَنْ لا حَقّ له في أجسادِنا، يكون حرصنا أيضاً على استغلال كل جزء في هذه الأجساد مع من يحل له ذلك..
و من هنا يدوي في عقلي حديثُ المصطفى - صلى الله عليه و على آله و سلم - عن اليتيم، و الحث على مسح رأسِه لمن أراد منا أن يرقق قلبه..
لم يغفل الإسلام هذه اللغة البليغة.. لغة الجسد..
و هي بالفعل قادرة على تغيير الكثير، و على وصل ما انقطع، و مداومة ما اتصل، و الإفصاح عما قد تعجز لغة الكلمات عن الإفصاح عنه..
لكننا لا نحسن الحديثَ بهذه اللغة..
أو نخاطب بها مَنْ ليس معنِيّا بخطابنا..
أو نتحدث بها في تقتير شديد، بينما نترك ألسنتنا تنطق بسخاء مماثل له في الشدة، بما قد يهوي بنا في النار..
لم نتعلم أن نقبّل و نحتضن..
لم نع كيف نضم، و نحوط بأذرعنا، و نمسح بأيدينا، و نحتوي بصدورنا، و نشد بأكفنا..
لكنني منذ ذلك اليوم الذي حظيتُ فيه من صغيرتي بما لم أكن أستحق، قررتُ ألا أبخل على أحدٍ بما أملك بالفعل، و لا يكلفني مشقة.. بل يورثني رقة و سعادة..
منذ ذلك اليوم، و يداي ليستا بجانبي، و شفتاي على وجنات الآخرين!
قررت ألا أكون فصيحة اللسان فقط..
بل و الجسد أيضاً.