إنها لي

الهدف الرئيسُ مِن هذه المدونة هو تأريخٌ لما أكتب، فلستُ أزعمُ أن أفيدَ بها أحداً سواي

Mar 16, 2007

لماذا يعجز الآن؟


كنتُ أداعبها كالمعتاد..
تضحك ملءَ فيها..
تشير إليّ كي أحملها إلى أقصى ارتفاع تسمح به ذراعاي، ثم تحوطني بساعديها الغضين في امتنان بريء..
يومها، دوّتْ صرختها مفزعة، بدلاً من صفير ضحكها المعهود..
و انهارت يداي بها على الفراش..
ماذا بكِ يا صغيرتي؟ لمَ الصراخ؟
هل أفزعتُكِ دون قصد؟
لم أجد مبرراً واضحاً لهذا الكم من الألم و الذعر المرتسم على وجهها الأبيض الناعم..
لم تفلحْ ضماتي الحميمة لها، لم يُسكتْها دفء صدري..
أرفعها و أضعها، ولا فائدة..
أخيراً، غلبها النومُ على بطني..
لكنني، حين تأملتُ وجهها الناعسَ، ارتجَفَتْ أوصالي برعب بلا حدود..
طفلتي تعاني شيئاً ما..
شيءٌ مخيف..

* * *

هذا الوجه الجميل يحمل ملامح العذاب..
يبدو هذا في تقلص عضلاته، و انعقاد حاجبيه الهزيليْن، و غياب لونه النضر..
هكذا قال لي والدها..
لم تشتكِ البنتُ هذا اليوم..
لم تصرخْ..
لم تبكِ..
لكنها أيضاً لم تضحك..
لم أسمع نداءها لي كي أحضر لها ما تشتهي من الألعاب و صنوف الطعام..
أتذكر يوم أرهقتني وسائل إيقافها عن اللعب و الصراخ، حين اجتمَعَتْ مع أطفال العائلة..
يا لغبائي!
أيزعجني صوتها؟!
أأطالبها بالسكوت؟!
هاهي قد سكتت، فماذا جنيتُ؟
أبيع إحدى عيني اليوم لمَنْ يستخرج منها بسمة..
قررتُ أن أمنحها حماماً دافئاً..
أكان قراراً صائباً؟
لست أدري..
لكن انسكاب الماء الدافئ على جسدي، طالما أنعشني، و أزال كل همّ و ضيقٍ في نفسي..
فلا شك أن تأثيره مماثلٌ عليها..
حملتها إلى هناك..
وجدتُ استمتاعها بالماء نوعاً..
ربما كنتُ محقة..
إنها لم تكن تريد التخلي عن حوض المياه..
جففتُ جسدها الطري المصقول، و أرقدتها فوق الفراش، ريثما أحضر ملابسها الصغيرة ذات الألوان الزاهية..
كانت مستلقية على ظهرها، تعبث بأسنان المشط، و تركل المنشفة بقدميها في صمت، حين تعالى صراخُها بغتة..
التفَتُّ إليها بسرعة، و قلبي ينبض في عنف..
كانت تتلوى بشكل مخيف..
يا إلهي!
أي آلام رهيبة تحس بها هذه الصغيرة؟
اقتربتُ منها، فإذ بي أجد شيئا غريباً لا أدري كنهه..
و لا حتى حين لمسته أدركتُ..
هو يشبه الخيط..
أو رباط دقيق من القماش المخطط..
و كان يخرج من جسدها..
نعم، كان ينبعثُ من جدار بطنها في مستوى السرّة تقريباً..
لم يكن يمتد خارجاً لأكثر من سنتيمتر واحد..
إلا أنه بدا لي لحظتها كثعبان ضخم، يسبب كل آلامها..
و حين لمِسَتهُ يدي، أدركتُ أنني أثرتُ انتباهها لوجوده، فلمِسَتهُ بدوْرها، و لكن هيهات..
فلمستي كانت حذرة.. خائفة.. حريصة..
بينما لمستها كانت مندفعة.. هائجة.. غير واعية..
فأمسَكَتْ بالخيط، ثم جذبَتْه دفعة واحدة..
و انتفض قلبي في لوعة..
كانت أذناي قد تهيأتا لسماع أسوأ صرخة ألم من فم ابنتي على الإطلاق..
إلا أنها لم تنطلق..
بل حدث أمر عجيب..
عجيب للغاية..
لقد ضحكَتْ..
و بشدة..
لقد اختفى الخيط مع جذبتها، و ترك أثرَه أليافاً دقيقة شفافة، لها ملمس لزج..
و اختفت معه الآلام و الصرخات أيضاً..
فرحَتْ طفلتي بلعبتها الجديدة..
و خفتت لوعتي قليلاً..
إلا أن قلقي تضاعف ألف مرة..
فأنا لم أفهم ما حدث.. و لا ما الذي يعنيه هذا؟
لكن سرعان ما توارت الأسئلة خلف نجاة صغيرتي المؤقتة، و احتجب القلق بستار من فرح بيِّن..
فاحتويتها سريعاً، و قبَّلتُها كثيراً، ثمّ ألبستها أجمل ما لها من ثياب..
و نسيتُ الأمر تدريجيا..
حتى كان ذلك الصباح..

* * *

حين صرَخَتْ هذه المرة، أسرعتُ بالكشف عن جسدها لعل حدسي يصدق..
و بالفعل قد صدق..
لم تحاول هي هذه المرة جذبَ الخيط، و لكني حاولتُ..
فعلتُ كما فعلَتْ هي تماماً، إلا أن النتيجة لم تكن واحدة..
لم يحدث شيء..
بل ربما ازدادت آلامها..
و هنا، تجمّدتْ يداي في الهواء، و ثبتَ بصري عليها في ذهول..
ما هذا الذي يحدث؟
ما بك يا صغيرتي؟
أخذتُ أحدِّث بها نفسي، و أنا أحملها و أضعها و لا فائدة..
صراخك يمزّق نياط قلبي.. أفلا تعلمين؟
ألا تصمتين أبداً؟
تتلوّى كالدودة في حضني..
تضرب الهواء بذراعيها الضعيفين..
تشتد مقاومتها لي..
أضعها على الفراش..
أبكي من هول مشهدها..
تقطع الفراشَ كله التواءً و رفساً و تقلباً..
رباه!
ماذا تواجه بالضبط؟
ارحمها يا إلهي..
أجري إلى الهاتف..
أطلب والدها في العمل..
أدركني يا رجل..
لمَ تختفي كلما احتجتُ إليك؟!
أحضرْ معك طبيباً..
بل اثنين.. بل عشراً..
الكل فداؤك، حبيبتي..

* * *

جاء الطبيبُ..
و الثاني.. و الثالث..
شاهدتُ الطب عاجزاً لأول مرة في حياتي..
أجئت تعجز الآن؟
فأين إنجازاتك؟ أين تقنياتك الحديثة، و أجهزتك المتطورة؟
أين العلم الغزير الذي لا سقف له؟
أين التقدم الذي لا يعرف حدوداً؟
لِمَ تعلنون الفشلَ أمام ابنتي؟
لمَ تلوون الشفاه، و تقلبون الأيدي عندها؟!
ما أثار حنقي، هو أنني لم أرَ الطب عاجزاً فقط..
بل رأيت في عينيه لهفة و فضولا..
فضول يلتهم ابنتي، و لهفة تنمو و تسعى لدراسة حالتها..

استسلمتُ في بادئ الأمر..
أخذوها..
هم المتخصصون في النهاية، و الكلمة لهم..
سألني أحدهم:
- كم تبلغ من العمر؟
- عامان إلا قليلاً.
- هذا الذي يبدو كالخيط.. إنما هو كائن حي.. يحيا على أمعاء ابنتك على الأرجح.. لست أدري ما يتعلق بتركيبه بعد، لكنني سأصل إليه حتماً..
قال الآخر:
- إنه يفرز من داخله مادة ما، تذيب بعضا من ألياف عضلات جدار البطن الأمامي، فيخترقها بسهولة حتى يطل خارجاً منها.. لكنني لا أعرف إلام يسعى بالضبط..
- لقد أخذنا منه عينات عديدة، و يجري الآن فحصها بكل الطرق و الوسائل المتاحة.. سنعرف الحل بإذن الله..
- قد يكون عاقلا.. يبحث عن شيء ما خارج البيئة التي نما فيها.. شيء يفتقده داخلها..
- نوع من الديدان الشريطية ربما.. فصيلة جديدة لا يعرف العلم عنها شيئاً بعد..
- ألا تبدو لك ضخمة الحجم للغاية؟
- ليست دودة.. بل خلايا سرطانية..

و كثيراً من أمثال هذه التفصيلات العلمية الدقيقة التي لم أفهم منها شيئاً..
كل ما أدركته أن هذا الشيء – كائنا ما كان – يسعى لبقائه..
و بقاؤه في موت ابنتي..
قلتُ لوالدها:
- هؤلاء الأطباء لا يفعلون شيئاً لصغيرتنا.. إنهم لا يكفون عن البحث و إجراء التجارب و كتابة التقارير.. لا أجد لجهدهم نفعا.. آلامها لا تهدأ..
- يبذلون قصارى جهدهم.. فماذا تبغين؟
- أبغي الخلاص لابنتي.. ما أراهم يتحركون إلا بدافع من فضولهم العلمي لحالة لم يجدوا لها مثيلاً من قبل، و لم تسجل مراجعهم كلمة واحدة عنها، و يتخذون ابنتي فأراً جديداً لتجاربهم.. ربما يتخيل كل منهم بلوغ شهرته صاعداً فوق أحشاء ابنتي.. لا.. لن أرضى لها بهذا..
- فماذا أنت فاعلة؟
- سآخذها بين أحضاني.. إن كانت الآلام واحدة، فهي هنا في مأمن بين أمها و أبيها، تطمئن عيناها لرؤيتنا، و تطبق جفونها في راحة كلما فترت آلامها..

لم يقتنع بما قلتُ..
هتر بكلام كثير عن العلم و فائدته، و عن حمقي و جهلي واندفاع عاطفتي، لكنني أجزم بأنْ ليس هذا بالسبب..
لقد سافر الرجل و تركني..
لم يحتمل رؤية آلام ابنته..
فضَّل ألا يراها أبداً، على رؤيتها في عذاب..
لهذا كان يريدها بين أيدي الأطباء..

* * *

صغيرتي المسكينة تتلوى في ثوبي..
حملتها معي إلى المسجد..
أسكنتها في حجر إمامه..
نظر إليها في رثاء و شفقة..
دعا لها، ثم لم يحتمل ضربات أطرفها، فأعادها إليّ..

ارتفع الصراخ..
بدأتُ أفقد صوابي..
صرختُ بدوري:
- مَنْ الذي فعل بطفلتي هذا؟ مَنْ؟
أجابني صوت الإمام خافتاً عميقاً:
- هم..
توقفتُ عن الصراخ بغتة.. التفتُّ إليه، واصل:
- هم زرعوه داخلها..
- ماذا قلتَ؟ من هم؟
لم يجبني..
انشغل عني بأداء الصلاة، فقمتُ حاملة الصغيرة، تجرُّني قدماي إلى حيث راحتها، أو راحتي..

* * *

عاد والدها من السفر، يتلقى العزاء فيها..
ظننتُ أنه لن يعود أبداً..
يروح الناس و يجيئون علينا، حتى إذا أوغل الليل في مضيه قليلاً، اختفى الجميع..
و حل السكون المشوب برائحة الموت علينا..
يرى دموعي الصامتة، فيضع يده على كتفي، و يهتك ستر الصمت بقوله:
- لا تحزني.. سيعوضنا الله خيراً منها..
أبتسمُ في مرارة:
- أنت تعلم أنني استأصلت الرحم..
يصمت..
قالت عيناه لي:
- أنا أقدّر حالتك..
تمتمتُ في خفوت:
- لقد أرحتُها يا رجل.. أنقذتها من العذاب..
التقطت أذناه همستي الضعيفة، ثم التقطها عقله، ليصرخ بغتة:
- كيف فعلتِ هذا؟ كيف؟
يهزني من كتفيّ في عنف، ثم يدعهما فجأة ليوليني ظهره صائحاً:
- هل حقاً قتلتِ ابنتي؟
أجبته بدموع متحجرة في مقلتيّ:
- أليس يسمونه القتل الرحيم؟
- لكنه حرام..
- ؟؟
- ألم يحرِّم الله قتل النفس؟!
- إلا بالحق..
- و هل هذا حق؟
- و هل تألمها حق؟ ألا تُحلّ آلامها حراماً؟!
قال في تخاذل:
- كانت ستموت في كل الأحوال..
قلتُ في اندفاع:
- نعم.. و لكن قل لي إنها ماتت دفعة واحدة.. قل لي إن سيارة صدمتها فرحلت.. قل لي إن قلبها قرر التوقف عن العمل فجأة..
تتلاحق أنفاسي، أجهش بالبكاء:
- و لكن لا تقل لي سأقتلها لك في اليوم ألف مرة.. لا تقل لي سترين الديدان تلتهم أحشاءها كل يوم بلا توقف.. لا تقل لي سأسحب روحها من جسدها قطرة قطرة، فأعذبها حيث أشاء.. لا تقل لي هذا.. لا تقل هذا..
- أنا لم أقل شيئاً.. الله قال..
يجلس في مواجهتي..
- هو أراد.. و علينا تنفيذ حكمه..
- أتريد أن تقتلني كما قتلتُ نفساً بالأمس؟
- بل أريد الإصلاح ما استطعتُ..
- صدقني.. كنت أتألم معها.. أموت معها كل يوم.. كان لابد أن أقتل أحدنا.. لكنني آثرتها على نفسي..
- لقد جئتِ شيئاً نُكراً..
- لقد رحمتها يا رجل.. رحمتها، فقتلتها..
- سأرفع أمرك إلى الوالي..
التمعت عيناي ببريق مفاجئ..
الوالي؟ أي والٍ؟
أفي عصر الولاة نحن؟!
اختفى من أمامي؛ ليصل إلى واليه المزعوم..
فأعادته صرختي العالية..
يا لها من آلام بشعة تجتاحني..
كشفتُ عن جدار بطني الأمامي، فإذا به يرقص أمامي!
ذلك الخيط اللعين..
بدا لي كلسان يتدلى في شماتة من حلقٍ نتن الرائحة، تنقصه عينان ظافرتان، و قلب حاقد..

غمغم والد طفلتي الراحلة في دهشة و ذهول عارميْن:
- رباه.. لقد زرعوه داخلك أنتِ أيضاً..

لكنه رفضَ أن يبدلني بدود البطن، دودَ القبر..
سافر..
تركني ممددة على الأرض، دون أن يحضر لي طبيباً..
هل كانت ابنتي أغلى عنده مني؟!